Thursday, July 5, 2007

المامة سريعة بقبائل "البجا": التاريخ، الثقافة واللغة

المامة سريعة بقبائل "البجا": التاريخ، الثقافة واللغة

الغرض من هذا المجهود، ضمن أغراض الجمعية، هو التعريف بقبائل "البجا"؛ وهذه مقدمة نود بها ان نلخص ما نريد ان نبينه وما نود ان نفتح الحوارات وتبادل الآراء حوله.
ان البحث في تاريخ أي شعب من الشعوب انطلاقا من الروايات وحدها، ورغما عن ان الروايات تشكل عاملا مهيبا في ثقافة الشعب المعين، الا ان الإعتماد على ذلك وحده ليس بكاف. ونعتقد انه يجب ان يتم تقييم لتلك الروايات بوسائل اخرى لدعمها او التحفظ على اي منها. فالرواية الشعبية تدخلها الكثير من اماني المجموعة المعينة او لنقل انه يشوبها ما قد تتخيله هي عن نفسها؛ والخلافات التاريخية بين مجموعاتها المختلفة تترك آثارها في تلك الروايات.
ومن ناحية اخرى فان المصادر التي تناولت ذلك التاريخ وتلك الثقافة قليلة؛ ومن ناحية ثالثة، ولأن لغة البجا لغة غير مكتوبة، فان الغالبية العظمى من الذين كتبوا حولهم من غيرهم. ولذلك فإنه والى جانب ما يمكن ان يقال حول منهج كل من كتب حول الموضوع او ما يمكن ان يقال عن حرصه على تحري الدقة فيما كتب، فقد غاب عامل اساسي وحاسم، فيما نرى، عن تلك الكتابات الا وهو الدراية الكافية باللغة باعتبارها العامل الوحيد في شأن ثقافة هؤلاء القوم الذي اتسم باستمرارية وثبات بينين؛ ولغتهم بعد محمّلة ولدرجة التشبع بثقافتهم.
وربما بسبب هذا وذاك، فإن ما ذكرته تلك المصادر عنهم يكاد ان يكون، وبالكاد، متوافقا؛ بل الواضح هو ان ذلك قد اتسم بالاضطراب الشديد، لا بل وبالتضارب في اكثره؛ الأمر الذي يستوجب قدرا اكبر في جهود البحث من حفريات آثارية في مناطقهم والتأمل فيما هو متوفر من تجليات ثقافتهم من عادات وتقاليد واعراف ولغة ومقارنة الروايات بكل ذلك بغرض دعم رواية او معلومة ما وردت عنهم او التحفظ عليها. وعليه نرى انه من الضروري اللجوء الى وسائل اخرى خارج اطر الروايات التاريخية بغرض تنقية تلك الروايات وبغرض الاقتراب من الرواية الصحيحة حول المسار التاريخي للمجموعة محل البحث.
ومن الوسائل التي يمكن اللجوء اليها في مثل هذا البحث:
• مخلفات المجموعة المعينة وآثارها التي تتركها، وفي هذا تكون الحفريات الآثارية ذات مردود فعّال.
• مقارنة الروايات بواقع المجموعة المعينة المعاش والحكم على رواية تحمل ما قد يتناقض جوهريا مع ذلك الواقع.
• لغة المجموعة المعينة ومحمولاتها، وعليه فمن اهم العوامل في ذلك دراسة صوتيات اللغة والتصريف فيها وادواتها للتعريف ونظامها العددي. كما وان (دراسة اسماء الأعلام في اللغة ضرب من علم الآثار)، وان ذلك (من بين الأدلة اليقينية في علم التاريخ).

الإسم: "بجا"
من ذلك، ولعله اول ذلك، الإسم: "بجا" نفسه. ومن تجليات ثقافتهم في واقعهم المشاهد اليوم فإنه من المهم ان نوضح هنا بانهم في باديتهم لايعرفون الاسم الثلاثي: (بجا) او أيا من صيغه الاخرى التي وردت في التاريخ، وذلك مما يثبته اي بحث جاد حولهم. ويورد بعض الباحثين في ذلك، وبحق: (إنك لا تجد من الناس العوام من يقول لك أنه من البجة إذا سألته عن قبيلته). ورغما عن تعدد الأسماء التي عرفوا بها على مرِّ تاريخهم، إلا ان الواقع المشاهد اليوم يوضح بجلاء ان الاسم الذي يتمتع بسند من لغة هؤلاء القوم هو (بِذاوِيّتْ)؛ لذلك فإننا سنستعمل الاسم: (بِذاوِيّتْ) لإسم القبائل واسم اللغة عوضا عن كل بقية الاسماء بغرض الخروج من دائرة "المشهور" حول ثقافتهم من ناحية، وبغرض الالتزام بما يوفره البحث في تجليات واقعهم الثقافي وليس ما " يُعتقد عنهم" من ناحية اخرى؛ إذ لا مبرر، فيما نرى، لإستعمال اسم لايعرفونه ولا تسنده لغتهم غير الركون للمشهور وعدم الالتزام بما يوضحه واقعهم المعاش.

أصول البذاويّت
ومما ورد في التاريخ عن اصولهم فان بعض المؤرخين نسبهم إلي نسل (كوش بن حام). كما ورد عنهم انهم تاريخيا فرع من فروع الشعوب الحامية الشرقية.
وقد ورد عنهم (ان لفظة "البُجا" تطلق على مجموعة من القبائل واسعة الانتشار وهم من قدماء المهاجرين الساميين).
كما ورد عنهم (أن البجا ابناء "كوش بن كنعان") وبذلك اصبح البجا من الساميين الذين نزحوا من بلاد العرب.
وقد قيل عنهم ( ان البجه وشبه السود من سلالة غير السود، وان سلالتهم لم تنشأ في هذه المنطقة بل هاجرت اليها من آسيا وان من لا يعترف بذلك لا تسنده اية حقيقة).
وقيل عنهم انهم (امة "الشاسو" ويقال لهم الهكسوس).
وبعضهم يؤكد ساميتهم حيث يقول بأنهم (من بقايا ثمود كانت على البحر الأحمر).
وقيل (انهم من ذرية سام بن نوح).
ويرد عنهم (انهم امة سامية وانهم عرب).
ويرى البعض (ان البيجة عنصر من عناصر المصريين).
وقيل انهم (صنف من الحبشة).
وقيل عنهم: (ولقد انقسم البجه الآن الى عدة قبائل جسيمة، وكلهم يدينون بالاسلام ويدّعون النسبة للعرب وما هم بعرب بل ربما كان في بعض خاصتهم دم عربي واما عامتهم فلا مشاحة في انهم بجه، وكلهم يتكلمون اللغة البيجاوية ولا يعرفون لغة غيرها إلا مشايخهم والذين يخالطون العرب منهم على النيل فإنهم يتكلمون العربية ايضا).
ويرى البعض (ان البجا الأصليين لا وجود لهم الآن).

لغتهم
أختلفت المصادر حول اصول لغتهم.
فقد ورد عنها انها (لغة حامية)، وانها (لهجة كوشية متفرعة من اصل حامي)، وانها (من فصيلة اللغات الحامية القوقازية مثل اللغات المصرية والنوبية والصومالية والدنكلية). وظن (انها لغة مروي القديمة). ورأى البعض (انها من اقوى اللغات الإفريقية).
وهم اليوم يتحدثون البذاويّتْ في كل منطقتهم مع ملاحظة ثمة اختلافات بينهم مما يعد لهجات داخل اللغة.
والمهم ذكره هنا هو انه ورغم التأثيرات اللغوية التي حدثت على اللغة إلا انها قد حافظت على قاموسها الأساسي في اسمائها لعناصر الطبيعة واسماء اعضاء الجسم واسماء أدواتهم المادية في عملهم وسلاحهم واسمائهم للألوان واسمائهم في دورة حياتهم من ولادة وموت.. الخ؛ وفي اسماء القرابة، واسماء الحيوانات والنباتات والطيور، واسمائهم للأعداد وتراكيبها؛ وهذه الأسماء، وفيما يرى علماء اللغويات، يصعب ان تتقتبسها لغة من لغة اخرى.

منطقتهم
ورد عنهم (إنهم مجموعة من القبائل المتجولة، والتي تحتل منذ أربعة آلاف سنة قبل الميلاد أو أكثر المنطقة الواقعة بين البحر الأحمر ونهر عطبرة ونهر النيل، من سهل اسوان جنوبا وحتى الهضبة الإريترية). وقيل: (وأول بلد البجة في قرية تعرف بالخربة في صحراء قوص).

الهجرات الى منطقتهم
كانت منطقتهم منطقة جاذبة لأهميتها الجغرافية، فهي المدخل الشرقي لإفريقيا وقد كانت معبرا للتجارة عبر موانئهم القديمة: "باضع"، "عيذاب" و"سواكن". وكانت المعادن النفيسة كالزمرد والذهب في منطقتهم كوادي العلاقي سببا لهجرات مختلفة لمنطقتهم. وقد ورد انه وفي فترات سحيقة من التاريخ كانت المنطقة مركزًا لهجرات مختلفة منها هجرة "سبئية". وانه قد هاجرت قبيلة "بلي" الى المنطقة قبل الإسلام ايام حكم البطالسة في مصر واختلطت بهم. وقد مر بمنطقتهم الحجيج المسيحيين والمسلمين وهم في طريقهم إلى بيت المقدس ومكة من الداخل الإفريقي والحبشة، وقد استقر فيها بعض الحجيج المسيحيين وبعض شعوب آسيا كالهنود من خلال مرور تجارتهم عبرها.

دياناتهم
المشهور انهم أقوام قد انتقلوا من الوثنية إلى الإسلام، وقد ورد انهم كانوا (يعبدون الأوثان). وقيل عنهم (وليس لهم شريعة انما كانوا يعبدون صنما يسمونه "حجاجوا"). كما قيل عنهم: (وطائفة البجاة اضل من الأنعام سبيلا واقل عقولا لا دين لهم سوى كلمة التوحيد ووراء ذلك من مذاهبهم الفاسدة ما لا ينحصر).
وبعض المصادر تظن (ان بعض سكان المنطقة قد اعتنقوا المسيحية). وقد قيل عنهم انهم (كانوا مسيحيين في القرن السادس، ولكنهم أسلموا منذ القرن الثالث عشر الميلادي).
والمشهور، عبر تاريخهم، (انهم قد مارسوا اصناف مختلفة من العبادات كعبادة الأجداد وعبادة ابطالهم الاسطوريين وعبادة الارواح). وانهم (قد عبدوا آلهة قدماء المصريين، وقد كانوا يتعبدون في معبد "الفنتين" في اسوان حتى عهد الدولة الرومانية في مصر حيث منعهم الرومان من ذلك).
يعتقد، وكما سلف، انهم قد انتقلوا من الوثنية للإسلام مباشرة. ويعتقد ان ذلك قد تم عبر اعتناقهم للإسلام الصوفي. وفيما يبدو فإن ما رغب البذاويّت، كغيرهم من وثنيي أقوام السودان، في الإسلام الصوفي هو أن الصوفية اكثر اقناعا واقرب الى وجدان هؤلاء لأنها أقل تشددا من بقية الفرق الاسلامية، فهي تقبل الأفراد إليها على ما هم عليه، ومن ثم تسعى لتربيتهم التربية الدينية التي تراها. لقد حاولت الصوفية التواؤم مع ما انتظرها من تراث لدى هذه الشعوب بدلا من نفيه، وكان لجوءها للاستفادة من ذلك التراث وتوظيفه لمصلحتها مما رغب هؤلاء فيها. هذا التسامح فكرة أساسية عند الصوفية، إذ أن كل طريقة تعترف بغيرها من الطرق ولا تصادمها، بعكس حال فرق أخرى تعتبر كل منها أنها وحدها هي الفرقة الناجية وان الآخرين أصحاب بدع وضلالات، وكان أن انتشرت عند الصوفية مقولتهم أن " لكل شيخ طريقته"؛ وهكذا كان اعتناق البذاويّت للإسلام الصوفي الذي صبغ حياتهم وبعمق.
ونرى ان الأمر يحتاج لمزيد من البحث للتأكد من علاقة المنطقة بالديانات قبل الإسلام.

صفاتهم
وقيل عنهم انهم (شديدو السواد)، و(اشد سوادا من الحبشة). وقيل (والوانهم مشرقة الصفرة). وقيل ان (تقاطيعهم غليظة ووجوههم طويلة عريضة وانوفهم بارزة قليلا وشعورهم فلفلية غير متلبدة .. وسحنتهم غاية الشناعة). وقد وصفهم البعض (بطول القامة وبجمال الجسم خاصة الرجال وبأنهم كبار الأبدان حسان الصور).
كما ورد عنهم ان ( طائفة البجا اضل من الأنعام سبيلا واقل عقولا.. وهم عراة يسترون عوراتهم بخرق، ويعيش اهل عيذاب عيش البهائم وهم اقرب الى الوحش في اخلاقهم منهم الى الانس). وقيل عنهم ( وهم اصحاب ذمة.. وهم يبالغون في الضيافة فإذا طرق احدهم الضيف ذبح له، فإذا تجاوز ثلاثة نفر نحر لهم من اقرب الأنعام اليه سواء كانت له او لغيره، وإن لم يكن شيء نحر راحلة الضيف وعوضه خيرا منها).
ويرد عنهم ان (ملامح البجة وعاداتهم واخلاقهم فجميعها عربية محضة).

تاريخهم
المتتبع لتاريخ المنطقة يجد انه قد وردت عنهم روايات مباشرة في بعض المصادر، كما قد وردت اشارات او صفات ذات علاقة بهم هنا وهناك في مختلف المصادر. فقد ورد عنهم انهم قد عاشوا في المنطقة منذ 10000 سنة، وورد عنهم انهم قد قطنوا المنطقة منذ ما يزيد على الاربعة آلاف سنة قبل الميلاد. وقد ورد اسمهم: (BUKA) في الآثار الفرعونية القديمة، على عهد تحتمس الثالث الذي عاش سنة 3500 قبل الميلاد، كما ورد اسمهم على آثار مملكة اكسوم على هيئة:(BUGAIATÆ). وقد اورد بعضهم عن مجموعة عاشت في المنطقة سماها: (تروقلوديته)، وتعني: ساكني الكهوف، بعض الصفات ذات العلاقة المباشرة ببعض عادات البذاويّت اليوم، وقد ورد عن تلك المجموعة (انهم يحترمون المسنات من النساء كل الاحترام حتى انهم اذا كانوا في اشد قتالهم ودخلت بينهم امرأة مسنة تركوا سلاحهم وكفوا عن القتال).
كان للبذاويّت الكثير من الحروب مع جيرانهم من النوبة والفراعنة، وقد حاربوا كل الدول التي حكمت مصر: البطالسة والرومان والدولة الإسلامية. وكانت العلاقة بينهم وبين مملكة اكسوم، جنوبي منطقتهم، علاقة عداء وجوارهم لم يكن جوارا آمنا فقد ضايقوا دولة اكسوم كثيرا وكان للأكسوميين اهدافا في المنطقة. وكان بينهم وبين النوبة مواقع عديدة سجلت على جدران معبد (كلابشة). وفي عام 831 م كانت لهم حروب مشهورة مع والي اسوان من قبل الدولة العباسية انتهت بهزيمتهم والاتفاق على هدنة بينهم.

قبائلهم
رغما عن انه لا توجد إحصائيات دقيقة حول تعدادهم، إلا انه وحسب المصادر التي تناولت ذلك، فإنها تراوح تعدادهم ما بين مليونين وثلاث. وتتفرع البذاويّت لعدة قبائل منها عشر قبائل رئيسية: (هَذَنْذِوَ)، (أمَّارْأرْ)، ( أتْمَنْ)، (كميلاب)، ( أبابِد) أو عبابده، (بشارِ) او بشاريين، (مَلْهِيتْ كِنابْ)، (هَلَنْقَ) أو حلنقة، (ارْتِيقَ)، (بني عامر)، (شرَفْ)، (جعافرة)، و(سَواكَنِ) او "سواكنيه"، أهل سواكن من البذاويّت.

نشاطهم
البذاويّت قوم من الرعاة الرحل، وهم يرعون الإبل والضان والماعز والبقر ويمارس بعضهم تربية الخيول. ويمارسون القليل من الزراعة المطرية في بطون الأودية. وهم يتبعون الكلأ حيثما كان في منطقتهم. كما انهم يمارسون بعض الحرف الصغيرة من صناعات جلدية ونسج الصوف تمارسه غالبا النساء. ويمارسون بعض الصناعات الفخارية وصناعة السكاكين والسيوف والدروع (الدرق). ويبيعون اللبن وبعض منتجاته كالسمن في المدن. وهم لم يشتغلوا بالتعدين في منطقتهم إلا قليلا؛ وقد ورد عنهم في ذلك: (والبجة لا تتعرض لعمل شيء من هذه المعادن). ورغما عن انهم يجاورون البحر، غير انهم لعلهم (الشعب الوحيد في التاريخ الذي سكن على شاطئ البحر ولم يشتغل بالملاحة إلا قليلا). ويرد عنهم انهم (لا يحبون البحر ولا يتفاعلون معه في اي صورة من الصور). وهم حتى لا يصطادون السمك ولا يأكلونه ولا يعرفون العوم.

حركتهم في منطقتهم
والبذاويّت يتجولون للرعي في منطقتهم الشاسعة، ولم يكن تجوالهم يعرف حدودا، فالحدود قد صنعت في المنطقة حديثا. ولهم في ذلك ثلاث رحلات تتم على مدار العام، رحلة في الخريف لمنطقة جنوب خور عرب ومشرق نهر عطبرة وحول نهري القاش وسيتيت ومداخل اريتريا واثيوبيا؛ وفي الشتاء يتجه الرعاة الى ساحل البحر الأحمر حيث موسم الأمطار الشتوية. وفي الصيف يتجهون إلى اعالي الجبال وبطون الأودية في وسط منطقتهم حيث الارتفاع وحيث يكون الجو معتدلا وتخضر الاشجار وتتوفر المياه في الآبار، وهي المنطقة التي يستمر استقرارهم فيها اكثر من استقرارهم في المناطق الاخرى. وتنقسم منطقتهم من حيث المرعى الى قسمين، قسم مفتوح "مراعي الكبيرة" ترعى فيه القبائل، والقسم الثاني في الأودية وبعض السهول مقسمة الى حيازات قبائل معلومة.

عاداتهم
يتميز البذاويّت بنمط من العادات والتقاليد متفرد، ولاشك ان حياتهم قد تأثرت بمجمل الظروف والمؤثرات التي سبق ذكرها من اعتناقهم للإسلام وتأثير الصوفية وتأثيرات المجموعات التي وفدت للمنطقة، من عربية وغيرها، وقسوة منطقتهم والرعي المترحل الذي يمتهنون وضعف انتشار التعليم بينهم.
والبذاويّت يؤرخون لسنينهم بأحداثها، ويعرفون الشهور بأسمائها وفي لغتهم اسم لكل شهر، غير أنه يبدو ان اسماء بعض تلك الشهور قد تعرب، وقليلون هم الذين يعرفون كامل اسماءها الحقيقية الآن.
وهم اثناء ترحالهم في منطقتهم ليلا يسترشدون بالنجوم ويعرفونها بأسمائها ومواقعها، اما اثناء النهار فهم يعرفون منطقتهم جبلا جبل ويعرفون كل خور وبئر بأسمائها ويعرفون القبائل التي تقطن حول كل منها.
من عاداتهم ما يسمونه: (اتْفايْ واكْ) ومعناها: قطع سرة "الوليد". وبعد نزول الجنين وربط سرته يأتي الأب ليعمد الطفل فيؤذن في اذنه اليمنى وينطق بإقامة للصلاة في اليسرى. تربط تبيعة الذكر في اعلى شجرة او تدفن قرب المسجد او ترمى في البحر إذا كان قريبا، اما تبيعة الأنثى فتدفن قرب الشعبة الخلفية من البيت دلالة على رغبتهم في استقرارها في البيت.
وهم شديدو التمسك بعادة الختان وهي عادة غاية في القدم عندهم. وقد ارتبط الختان عندهم بالكثير من المعتقدات. ويختنون الذكر في يوم ولادته، اما البنت فيتأخر ختانها، ويختنون الإناث ختان فرعون ويفضلون ختانها في يوم السبت، ولهم في ذلك معتقدات.
وعندهم ما يسمونه: (سِمِلّايْتْ) أو ( لِقُوقْ) وهو عبارة عن ان الرجل عندما يحلب اللبن فإنه لا يشرب منه ابدا إلا بعد ان يرشف منه، شرطا، رجل آخر ويسمي عليه قائلا "بسم الله". فإذا فعل دون (سِمِلايْتْ) فإنه يوصم بذلك ويسمونه: (أودَنابْ).
والمرأة لا تحلب ابدا، وذلك عندهم عيب شنيع، لذا فإن الأطفال يبيتون من غير عشاء إذا لم يكن هناك ثمة رجل يحلب للأسرة.
يعتز البذاويّت بإبلهم كثيرا، ويهتمون بها اهتماما كبيرا يفوق الوصف. فهي المال المتقوم عندهم، فالغنى عندهم هو امتلاك الإبل، والرجل منهم لا يبيع إبله إلا إذا اضطر أشد الاضطرار. ومن وبر الإبل مساكنهم ومن البانها ولحومها غذاؤهم. والإبل وسيلة انتقالهم الرئيسية. والجمل ركيزة أساسية في حياتهم وقد دخل، وبعمق، في حياتهم الاجتماعية وفي أعرافهم. ومنذ ان عرفوا، فان الجمل كان من اهم مواضيع شعرهم، والكثير من اغانيهم موضوعة في الجمل. وكان رعيهم الذي يمتهنون يسد جل متطلباتهم، ومن هنا جاء اعتزازهم برعيهم فهم شديدو التمسك به ولا يقبلون، بل ويحتقرون، أية مهنة اخرى.
ومما له علاقة بأعرافهم في ذلك فإنه وعند قطع سرة الوليد، فإن الأب يسمي ناقة بعينها من إبله، من أحسنها، ويهبها للوليد الذي صار منذ هذه اللحظات، لحظاته الأولى في الحياة، شخصية مستقلة.. وينمو نصيب الوليد في المرعى بنموه. والصداق عندهم أساسه الناقة. وفي طقوس زواجهم ما يسمونه: (مِتْـلَوِ) وهو شراكة بين الزوجين، وفيه تشارك العروس زوجها في مال إذا رغبت، وتبدأ الشراكة بأن توافق هي على أن تدخلها بالناقة التي دفعت لها كصداق وتنمو شراكتهما في المرعى.
وإذا نشذت الزوجة وطالبت بالطلاق فغالبا ما يطالب الزوج أن تتنازل الزوجة عن نصيبها في تلك الشراكة ليفترقا كوسيلة فعّالة للضغط عليها، وغالبا ما ترفض هي.. ويجري البحث عن مخرج آخر. و(تِ لأنَيْ) عندهم: الإسترضاء، ويتم ذلك في كبرى مشاكلهم. فالزوج الذي يختلف مع زوجته إذا أراد أن يسترضيها، أو في الديات أو الجروح والعفو فيها، فإن التراضي في كل ذلك يتم بأن يدفع الذي عليه الحق إبلا حسب كل حالة إرضاءا لصاحب الحق.
ومن تلك الأعراف ما يتعلق بعلاماتهم على إبلهم، فلكل قبيلة علامة خاصة بها على إبلها بها تعرف الناقة في أي أرض ظهرت. وعلامة القبيلة على إبلها هي علامة الأم الكبرى للقبيلة.. وهكذا عند كل قبائل البذاويّت.
وتمثل ال(جَبَنَ): اي "القهوة" اهم طقوس الضيافة عندهم، وهم يشربونها في كل وقت. وهم يحتسونها بفناجيل صغيرة ويشربون – شرطا- اعدادا فردية من الفناجيل اقلها ثلاث. ويتشاءمون من شرب فنجال واحد ولقد ارتبط ذلك عندهم بالكثير من المعتقدات. وهم قد يفضلون البقاء دون طعام لو كان الخيار بينها وبين الطعام. وقد تساءل بعضهم:
What kind of people spend 15-25 percent of their monthly income on coffee
ومن عاداتهم ان يوقدوا النار امام البيت كل ليلة وحتى الصباح ويسمونها: (تُ مْألَوْ) او (تُ تَلَوْ) ومن معاني ذلك الكرم، اذ يبتغون من ذلك ان تجلب النار المسافرين ليلا لإستضافتهم، ويتفاءلون بذلك ويعتقدون انه ما دامت تلك النار مشتعلة فإنه لاخوف عليهم وانهم سيجدون زادهم، وانطفاؤها يعني انهم سيعسرون.
ومن قديم عاداتهم في القسم المغلظة انهم يطلبون من الشخص المتهم بأمر ما إذا انكر واراد ان يبرئ نفسه، رجلا كان او امرأة، ان يلحس النار، ويسمون ذلك (نإيـّتْ لْهاسْ).
وهم لا يقسمون على المصحف لا صادقين ولا كاذبين.
ومن عاداتهم اذا تقابلت قبيلتان للحرب ولم يكن من يمنع ذلك من غيرهما، فإنه تبادر امرأة وتسير بين الجمعين حاسرة الرأس فلا تصطدم القبيلتان ما دامت تلك المرأة تسير بين الفريقين حاسرة رأسها، بل ويتفرق الجمعان.

اعرافهم
المقصود بالعرف في الفهم العام شيء واسع، ونعني بالعرف هنا ما تعارف عليه البذاويّت في معاملاتهم فيما بينهم، وما توافقوا عليه واتخذوه قانونا يقوم على اسس اخلاقية يتبناها الفرد منهم ومنذ نشأته.
فهم مشهود لهم بالكرم وبالشجاعة، وهم متشددون في التزامهم بعهودهم ويسمون العهد: (قَلَدْ) ويوفي احدهم حتى بعهد قاتل اخيه ويمهله المدة التي يطلبها، وغالبا ما تكون سبعة ايام، بغرض ان تأتي قبيلة القاتل لحل الإشكال عن طريق العرف: ( أوّ سْلِفْ). والعرف: (سِلِفْ) تحل به الغالبية العظمى من مشاكلهم وهي في الارض والمياه "الآبار" والأنعام والنساء.
وهم، ومذ عرفوا، كانوا يتعاملون بأعرافهم التي تواضعوا عليها في مجالس حكمائهم بعيدا عن الدولة وقوانينها. ومجالس ال(سِلِفْ) مهمة كبراء القبائل في مجالس حكمائهم التي قامت على ركائز راسخة بمعرفة هؤلاء الحكماء بتقاليد الناس وعاداتهم. ورغما عما قلناه من ان البذاويّت مسلمون، غير أنه من الجلي أن الرؤى حول الإسلام، والتي حكم بها في السودان في مختلف المراحل، لم توافق تصورات البذاويّت، الأمر الذي أفرز غربتهم في وطنهم في تلك المراحل؛ والواضح أيضا من كل ذلك هو أن حلول وأحكام مجالس حكمائهم تلك كانت اكثر توافقا مع وجدانهم الأمر الذي وفر بينهم سلما اجتماعيا وتعايشا كان الأكثر وضوحا عبر السنين.
وفي انساق علاقاتهم، فردية وجماعية، ما يسمونه (يايْ هَمادْ) والمعنى المباشر للعبارة هو: لوم وشكر، إلا ان مضمونه اشمل واوسع من ذلك، فهو اتفاق ضمني فيما بينهم ذو قيمة وحجية ملزمة، اذ انه وبمجرد احساس طرف ما بأن طرفا آخر قد تظلم منه يسعى الطرف المدعى عليه، وبشكل يكاد تلقائيا، الى استرضاء الطرف المدعي؛ وإن ظل امر المطالبة بالحق بيد المدعي يمكنه المطالبة به عبر اعرافهم.
وأساس ذلك هو حرصهم الشديد على الحفاظ على المودة فيما بينهم، وخرق ذلك الاتفاق او التعدي علي مضامينه يودي بصاحبه الى دائرة العيب وموقع الإدانة مما يرتب عليه جزاءات معنوية ومادية تبدأ بحتمية استرضاء صاحب الحق ما امكن وبكل الوسائل، وتصل الى تعويضات مادية حسب كل حالة.
اما فيما يستوجب القصاص في الجروح والإصابات، فيتم تقييم الإصابة فيها فيما يعرف عندهم باسم: (بويْ واكْ)– حيث ان (بُوّيْ) تعني: دم، و( واكْ) من معانيها: تقييم- وتحل مشاكل ذلك بالتعويض المادي بقدر التقييم الذي يتم للإصابة. وقد تتدخل قبيلة الشخص المدعى عليه بالحق للوفاء بحق المدعي سواء كان استرضاءا او بتحمل المادي في الحق عنه في حالة اعساره.
وفي اطار مفهومهم للشهامة: (دُورْأرِيّتْ) تتشابك منافعهم وتتكامل إمكانياتهم وجهودهم لمواجهة ظروف حياتهم القاسية.
ويظهر ذلك جليا في بعض انساق علاقاتهم للحصول على الأنعام من بعضهم، ولمختلف الأسباب، الأمر الذي ينتج ترابطا فيما بينهم. من ذلك ما يسمونه: (لْهَقِينْ) وهو تبرعات الأهل والأصدقاء بانواع الأنعام للزوج حديث الزواج مما يمكن من امتلاك مراح يسد مختلف احتياجات الأسرة الجديدة. و(تَيْتْ): نقل ملكية الأنعام على سبيل الهبة الأمر الذي ينتج حميمية متينة بين الواهب والموهوب له. و(دَنْقَيْت) وهي استعارة الحيوانات للإنتفاع بألبانها، عند انقطاع لبن بهائم الاسرة عند الإعشارها مثلا، ومن ثم اعادتها الى صاحبها عندما تحل ازمة المقترض. و(يْهَمُوّتْ) وهي استعارة الأنعام للإنتفاع بمنتجاتها.
ويبدو واضحا اليوم انهم يشعرون بانهم مجموعة متميزة سواء كان ذلك باعتبار اللغة او العادات والتقاليد. ويتضح ايضا ان لطبيعة حياتهم المذكورة اثر في الشخصية، فالفرد منهم حذر وقد طبعته حياته بما يفسره البعض بالغموض. وهو غالبا لا يبدأ بالعداء، غير انه صارم وعنيف وفي دواخله كوامن الثأر تستثيرها بوادر الاستفزاز او العداء؛ ومن هنا يأتي ضعف اختلاطهم بمن حولهم من المجموعات.

No comments: