غربا باتجاه الشرق:
في سيرة الأحساب و الأنساب .. والاعصاب!
مصطفي عبد العزيز البطل
mustafabatal@msn.com
تحيّرني حالة العصبية و التشنج الهستيري التي اعترت عددا مقدّرا من الذين تدافعوا بالمناكب، خلال الايام القليلة الماضية، للادلاء بدلائهم، في منابر الشبكة الدولية، في قضية اثبات نسب رئيس الدولة الاسبق المرحوم اسماعيل الازهري. تلك القضية التي تولي كبرها الاستاذان د. عبدالله علي ابراهيم و محمد المكي ابراهيم. وكأني بالاستاذين قد ازاحا غطاءً سميكاً اطلق من عقاله مارد القمقم الذي تحدثت به الاساطير! قرر عبدالله ان نسبة الزعيم الازهري الي قبائل الفلاتة فرية افتراها اهل الهوي، وان جذور الزعيم العرقية، في حقيقة الامر، تمتد الي اصول عربية راسخة. احتفي بالمقولة و زكّاها ود المكي مؤيداً النسب العربي لفارس الاستقلال، متوسلا الي تأكيد بغيته بعبارات مثل: ( يتصل نسبه باصول رفيعة) و (اصول عزيزة) و (اصول يمنية). و ما ان استقرت الكلمات: "رفيعة" و "عزيزة" علي شاشات الحاسوب حتي انفتح صندوق باندورا! قال الثائرون: اذا كان هناك اناس من اصول رفيعة عزيزة فإن مفهوم المخالفة و التحليل الابتدائي بل و المنطق البسيط يقود ضمناّ و بالضرورة الي ان هناك اخرون من اهل السودان ذوي اصول وضيعة متدنية، و من هنا انطلقت القذائف الثقيلة تلقي بحممها علي ود المكي و تدك ( بستانه) دكاّ. انعقد الحكم علي انه طالما كان ود المكي يري في في الانتساب الي اليمن رفعةّ و عزّة و الانحدار من تكرور تدنياً و ضعة، فانه ولا شك ممن يعتنقون ايديولوجيةً عرقية و ثقافية تحتقر الاعراق و الثقافات المغايرة ولا تري في السودان الا تراتبيةً انثروبولوجيةً تتماهي مع نظام الطبقات في الهند. و مازال القوم علي تلك الحال من الغضب و الانفعال حتي خرج عليهم من يهدئ الخواطر و يطيب النفوسً، يقول: ايها الناس، كلكم لادم، و ادم من تراب.
و من عجب ان ردة الفعل العصبية هذه بدأت ثم تطورت لتأخذ مداها، بعد ان قرأ اهل الانترنت الجزء الاول من اصل مادة من جزئين كتبهما شاعر الاكتوبريات. والذي يطلع علي المادة كاملة بجزئيها يلحظ حرص الكاتب علي تبيين عقيدته في ان قبيلة الفلاتة، التي يري ان الازهري قد نسب اليها دون دليل، انما هي (من احسن الناس اخلاقا و ديناً وانشط اهل السودان الي العمل الشريف)، و ان ابناؤها (حملة حضارة ادخلت الي السودان صنوفاً و الوفاً من المهارات و الصنائع و الزراعات)، ثم يقول: (و لو كان الازهري علي صلة بهم لبقي كما هو، رافع العلم و محرر السودان وابو الوطنية). الامر اذن اهون مما يظنون فهو، في المبتدأ و المنتهي، لا يعدو ان يكون" تصحيح نسب" و ازالة لبس و معالجةٌ نقدية لرواية وردت بين دفتي كتاب! وجليً، كما عين الشمس، ان انتقاء قبيلة او اعراق بعينها ودمغها بالضعة والهوان – كونها غير عربية - ابعد ما يمكن ان تستصحبه قراءةٌ منصفة لمقال يغدق، بغير حساب، اوصاف التزكية و التمجيد علي قبائل غرب افريقيا، كما نقلنا عن النص الاصلي للمادة موضع الجدل.
فيم اذن الجلبة و الضوضاء و الهرج و المرج و "القفز علي الرقاب"؟! الذي بدا لي و استقر في ذهني ان القضية، في الوانها الحقيقية، وثيقة الصلة باضطرابات و تداعيات اصابت مراكز الجهاز العصبي العام لقطاعات واسعة من اهل السودان تشكل جمهرة الناشطين في الشبكة الدولية بعض عيناتها العشوائية، اكثر منها حركة احتجاج مشروع يلتمس تصويب النظر باتجاه موقف استعلائي مفترض و تعريته امام الرأي العام.
كيف..ولماذا؟!
الازهري الشخص يرقد منذ ثمانية و ثلاثون عاما في باطن الارض، و الازهري الرمز هو الان في ذمة التاريخ، و ما اظن ان سودانياً واحداً ، يتنفّس داخل مساحة المليون ميل او خارجها، يمكن ان يدعي، ضحي يومنا هذا، ان تفصيلات شجرة عائلة الازهري تأخذ مكانا ما، متقدما او متاخرا، في بؤرة تفكيره او قائمة همومه. و في محافل سوداننا (القديم) اشتمل نسيج الحياه اليومية علي مجاذبات، لا تنتهي الا ريثما تبدأ، حول الاصول و الفروع و الاحساب و الانساب، لم يكن اهل السودان في اعقابها يأخذون بخناق بعضهم البعض، العيون جاحظة و الزبد يتدفق من الافواه! كان جدل الاحساب و الانساب، يتفرّع و يتشعب ثم ينتهي بطرفة! و في سودان الامس وقف المرحوم عمر الحاج موسي يصف مهارات بعض الناس فقال: (هم كالنسّابة اعرف الناس بكريم النسب، و كالصاغة اعرف الناس بجيد الذهب)، و لم يكن هناك من يستبشع او يري في مثل هذا القول تجاوزا او تخطياّ لخطوط حمراء. و كان اذا ردد احدهم علي مسامعنا انه ينحدر من ارومة شريفة او زعم ان نسبه يمتد الي العباس عم الرسول (ص)، قلنا له:
(نفعنا الله بعلمك)!! ومضينا في حال سبيلنا لا يخطر لنا، و لو للحظة عابرة، ان يقينه، او وهمه، امر ذو بال. ذلك كان سودان ما قبل "الانقاذ"!
فيي سودان – ما بعد "الانقاذ" – اصبح للمتعلمين من كل عرق او قبيلة او مدينة او قرية حلقة بريد الكتروني مغلقة علي الشبكة الدولية يدور فيها الحوار، في خفية و حذر، محاطا بكل تدابير السرية، حول اسئلة و قضايا تشيب لها الولدان: ما هو مستقبل قبيلتنا او عشيرتنا؟، اين نحن من تقسيم السلطة و الثروة؟ ماذايتعين علينا ان نفعل لحماية انفسنا و اهلنا من تغول و سيطرة المجموعات العرقية الاخري و هيمنتها علي الموارد نتيجة تمثيلها المتعاظم في مراكز الحكم و السلطة! و في سودان ما بعد الانقاذ – رأيت اعدادا لا تقع تحت حصر من الاسر السودانية ممزقة بين عائل يعمل و يعيش في دول الخليج العربي وعائلة، غاب عنها الاب، تعيش في براري امريكا الشمالية وحيدةً تائهة، و عندما يطرح السؤال: لماذا؟ تتدفق الي اذنيك اجابات ما كانت لتخطر ببال احد قبل سنوات قلائل: نريد ان نؤمّن مستقبل اولادنا بجنسيات وجوازات سفر امريكية او كندية، فلم نعد نطمئن لمستقبلهم في السودان، فنحن لا نعرف مآلات الامور ولا مايخفيه المستقبل! ثم ماذا نقول في هذه المصطلحات الجديدة العجيبة التي تسمعها هنا وهناك فتظل تنقر علي الرؤوس كالمطارق: السودان النيلي، السودان غير النيلي، مثلث حمدي، و مربّع عبدالظمّار! الي هذا الحد اذن اهتز الايمان بمستقبل الهوية القومية و تهاوت سلطتها في القلوب وهان امرها علي الناس، والي هذا الحد اذن اختل الوجدان الوطني و تراجعت معانيه و مضامينه. والي هذا الحد اذن اضطرب الجهاز العصبي المركزي لشعب بأسره، وسادت تبعا لذلك روح التشكك في دوافع الاخر وطواياه، و مشاعر الارتياب في ما عسي ان تخفي القلوب بين جنباتها، حتي لم يعد ابناء الوطن الواحد يحتملون، بصدر رحب، مبادرةً فردية لتصحيح نسب!
اجالة النظر في ارضية الواقع السياسي و الاجتماعي و الثقافي في السودان اليوم تكشف لكل ذي عينين ان جدل الانساب والاحساب والهويات القبلية والعرقية، في اطاره الاشمل، لا يخرج بحال عن مجمل التحديات التي فرضت نفسها فرضاً علي السودان في مدار تاريخه المعاصر – او بالاحري حاضره المعاش، و ما برحت تأخذ بخناقه و تنؤ بكلكلها علي صدره في زمانه الاخير حتي لكأني به و قد بلغت الروح منه الحلقوم. و قد وصلت – هذه التحديات - ذروة احتقانها خلال الحقبة الممتدة من يونيو ١٩٨٩ و ما بعدها، الشواهد و الحادثات ماثلة تكاد تنطق بلسان. هذا الواقع البئيس، بغير جدال، هو الذي يعمق الاحساس بغياب المستقبل، او علي افضل الفروض يعد بمستقبل تظلله الهواجس والاوهام، لا يعرف ملامحه و قسماته الا الجن!
عندما امسكت ( الانقاذ) بتلابيب السلطة قبل ثمانية عشر عاما قال قادتها و نصراؤها للملأ من اهل السودان: کانت البلاد بين كفي عفريت، تنتقص من اطرافها، و ينخر السوس بين جنباتها، و تتداعي عليها العاديات كما تتداعي الاكلة علي قصعتها، فقيّضنا الله لنعيد اليها امنها ووحدتها و عزتها وعنفوانها.
بارك الله فيكم و جزاكم عنا خير الجزاء. بلغتم الرسالة و اديتم الامانة و نصحتم الامة....ان وجدت امة!
نقلا عن صحيفة (الاحداث
No comments:
Post a Comment