Thursday, June 7, 2007

كسلا التاريخ والحضارة كتبها د/سيد احمد العراقى

كسلا التاريخ والحضارة كتبها د/سيد احمد العراقى

تحدوني الرغبة الأكيدة عن الكتابة عن مدينة كسلا منذ زمن بعيد هذه المدينة ذات التاريخ الناصع الوضاء التي عشنا فيها أجمل أيان حياتنا ... وقضينا فيها كل مراحل صبانا ، فإستمتعنا بجمالها وألقها وبهائها .. وهي لذلك كله تستحق التقدير والتبجيل لأنها وعدت وأوفت وأعطت ، وجاء الوقت الذي تستحق فيه حفظ الجميل الوفاء والعرفان . ولأن تقديرنا ومحبتنا وإهتمامنا بهذه المدينة الجميلة ذات التاريخ المجيد والعظيم ، لازمنا منذ الصبا والشباب وسيلازمنا كل العمر إن شاء الله .

لذلك آليت علي نفسي كتابة صفحات عن كسلا في كل مراحلها التاريخية من النشأة والتكوين إلي التطور والإزدهـار ، وإعطاء لمحة عن ملامحها التاريخية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية في مختلف عصور التاريخ : القديم والوسيط والحديث والمعاصر ، وسأركز في حلقات عن جوانب مهمة تعكس تطورها الإجتماعي والإقتصادي والثقافي مع شيوخها وفقهائها وعلمائها ونظارها وعمدها ، ورواد التعليم والثقافة والأدب والعلوم والفنون ، مع الإشارة إ! لي أبرز أركان جيوشها ورجال الحركة التجارية والإقتصادية وتطور الحركة الرياضية فيها وقيام الأندية منذ الربع الأول من القرن الماضي .

وإلي أن يبدأ تاريخ مدينة كسلا الحديث في الظهور في القرن التاسع عشر سأبدأ كتابة الحلقات الأولي بعرض تاريخي للمنطقة بوجه عام منذ تاريخها القديم إلي ظهور الإسلام وتطور مراحل الدعوة الإسلامية في أرض البجة وبلاد التاكا بوجه خاص ، وإزدهار الدعوة الإسلامية في منطقة البحر الأحمر ، ومن ثم إلي الداخل حتي وصل أرض التاكا بقبائله الخالدة من الحلنقة والهدندوة والبني عامر وغيرهم . إذ أن الثابت أن تاريخ هذه المنطقة كان علي صلة وثيقة بموطن أرقي الحضارات الإنسانية وهي الحضارة الإسلامية .

وأنني أحاول إقتحام هذا المجال المهم والصعب ، فإنني أطلب يد العون والمساعدة من كل من له باع في هذا المجال وذلك بالنقد أو إبداء الرأي والملاحظة أو الحذف أو الإضافة . إذ أن هناك مراحل كثيرة وحقباً تاريخية عديدة مر بها تاريخ هذه المدينة ذات التاريخ المجيد والعظيم , الكتابة فيه قد تعتريه صعوبات جمة يدرك الباحثون الذين يحاولون إلقاء بعض الضوء علي ناحية أو أخرى من هذا التار! يخ الطويل في مقال خاص أو بحث موجز . ومنشأ هذه الصعوبات ضياع معظم المصا در التي خلفتها مراحل وعصور بائدة أو إندثرت معالمها فمن دراسة مراحل تاريخ كسلا تتضح المعالم البارزة لأوجه حضارتها وتطور ثقافتها وإزدهار فنونها وبروز مواهبها ونحن نتمني دائماً لكسلا التقدم والتطور والإزدهـار .

وكسلا تستحق البحث والدراسة ، لأنها وبكل المعاني ذات تاريخ يتمني الإنسان أن يخوض في أعماقه ليكتشف بواطن العظمة في أهلها وأصالتهم وحسن معشرهم ، وهي عاصمة الشرق بكل جمالها وبهائها .. يتوق إليها أبناؤها دوما لأنها محببة إليهم بلداً وأهلاً وعظمة وعزة ، وهي عزيزة علي أهلها وأبنائها وزوارها وضيوفها لجمالها الذي يفوق حد الوصف ولعراقة وأصالة شعبها .

فلكسلا التحية والتقدير من علي البعد ... لأنها تستحق حسن الذكرى وحفظ الجميل وثنايا الشكر والتبجيل والتمجيد ، فهي قبلة الزوار ومنارة العلم وكعبة بشيوخها وعلمائها وفقهائها .

فإلي الحلقات التي تعكس تاريخها الناصع وملامحها الإجتماعية والثقافية الوضاءة ... وبالله التوفيق .

جغرافية مدينة كسلا :

* الخصائص الطبيعية والبشرية :

الخصائص الطبيعية لمدينة كسلا تتمثل في بساطتها التي إنعكست علي نظام السطح البسيط ، وقد يبد! و التقسيم الرئيسي لمظاهر السطح في كسلا بسيطا وغير معقد .. ساعد ذلك علي خصوبة أرضها المعطاءة ، علي مر الأزمان والأجيال ، فساهم هذا بدوره علي حياة السكان فيها وإعتمادهم التام علي الرعي والزراعة ، كما ساعد علي حركة التجارة وإنتعاشها وإزدهارها ، وذلك علي الرغم من تعقيد بعض التفاصيل الداخلية وسلسلة الجبال الطويلة الممتدة من جبل التاكا جنوباً إلي سلسلة جبال البحر الأحمر شمالا وشرقا ، وقد أعطي نهر القاش – وإن كان نهرا موسميا – يجري في فصل الخريف إلا أنه أعطي نموذجا رائعا يعطي معني الترابط والتجمع بين الناس منذ قديم الزمان ، ويمثل من وجهة النظر الحضارية قطبا مغناطيسياً يشد الناس ويلم الشمل ويؤلف بينهم .

عاشت في كسلا منذ القدم أجناس وقبائل تختلف عن بعضها في العادات والتقاليد والمعتقدات ونظم الحياة ... وقد إشتركت جميعها في صنع الواقع الحاضري والإجتماعي والإقتصادي والإشارة إلي هذه القبائل تعطينا الدليل الواقعي الذي أدي إلي تكوين ذلك النسيج الفريد الذي أدي بدوره إلي تكوين تلك الرابطة والوحدة الإجتماعية لمدينة كسلا المعاصرة .

أما أهم قبائل الشرق بوجه عام وأقدمها وأبقاها أ! ثرا في تاريخ تلك المنطقة هم قبائل البجة بصفة عامة ومنهم الهدندوة والبن ي عامر والأمرأر والبشاريين وإنضم إليهم الحلنقة وهم من عرب هوازن عبروا إلي هذه المنطقة من الجزيرة العربية وينفرد الحلنقة ومن بعدهم البني عامر والهدندوة بأنهم أول من سكن وعمر مدينة كسلا – بل تشير الروايات بأن الحلنقة هم الذين سكنوا في هذه المنطقة في البداية ثم تلي ذلك هجرات الهدندوة والبني عامر وتنتشر هذه القبائل الثلاث في منطقة واسعة مترامية الأطراف تمتد من جنوبي كسلا إلي سواحل البحر الأحمر إلا أن للبني عامر إمتداداً وعمقاً داخل الأرض الأرترية ، وتغطي قبائل الهدندوة والبني عامر وفروعها من النابتات والأرتيقا وغيرهما علي أراضي شاسعة ممتدة في أودية نهري القاش وبركة . وبجانب هذه القبائل تعيش قبائل كثيرة في كسلا وأطرافها المختلفة مثل الحمران والشكرية والرشايدة والأخيرون وفدوا إلي البلاد من الجزيرة العربية في وقت متأخر ، وقد يكون تاريخ دخولهم إلي السودان في القرن التاسع عشرا أو الربع الأول من القرن العشرين .

هاجرت إلي مدينة كسلا قبائل عربية عددية من داخل السودان الشمالي والأوسط منهم علي سبيل المثال لا الحصر : الشايقية والجعليين والرباطاب والمناصير والدناقلة والمحس والكواهل ! ، ورغم أن هجراتهم إلي كسلا ربما تكون قد حدثت في النصف الأخير من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ، إلا أنهم أحدثوا نقلة نوعية في مجال تطوير الحياة الإجتماعية والإقتصادية ، فأصلحوا الأراضي ، وعملوا بالزراعة والتجارة ، فإزدادت أهمية المنطقة الإقتصادية وعاشوا جميعا عيشة هنية مع سكان البلاد الأولين ، فأضافوا لونا خاصا للحياة الإجتماعية .

ويمثل كل هؤلاء أمما مختلفة في صفاتهم وعاداتهم وثقافاتهم ولكنهم إنصهروا جميعا في ساحة المدينة الخلاقة وأطرافها العامرة ، وأدي ذلك كله أن تتفاعل هذه مع تلك ، فإختلطت الدماء والنظم الإجتماعية والآراء العقلية وساعد علي ذلك سياسة المحبة والتسامح والترابط الذي ساد بين الناس في مدينة كسلا منذ زمن بعيد .. ومن هذا الإختلاط نشأ جيل جديد يحمل ميزات عقلية وجسمانية خاصة ، تظهر ملامحه في الواقع الإجتماعي والثقافي الذي تشهده كسلا في الوقت الحاضر .

وفي فجر تاريخها الحديث ، وفدت إلي كسلا جماعات عديدة من خارج البلاد خاصة من جيرانها المجاورين لحدودها ، فقد وفدت جماعات من الأجانب والإثيوبيين والأرتريين بمختلف فروعهم وأصنافهم ، كما وفدت إلي كسلا ! جماعات من اليمن السعيد ، أهمها جماعات من الحضارة (الحداربة) واليمنيين ، كما جاءت جماعات من الحجاز ، وجماعات من بلاد أوروبية وآسيوية ، ومنهم الهنود والبنقال من آسيا ، والشوام من الشام والأقباط من مصر واليونانيون والإغريق من أوروبا .

ومارس هؤلاء أعمالاً مختلفة من أهمها التجارة – وأصبحت كسلا في فترة وجيزة قبلة الزوار ، يأتي إليها السواح والزوار من حدب وصوب ، فتبارى الأدباء والشعراء في تمجيد مدينة كسلا وتخليدها ، كما تغني بجمالها وألقها وحسنها وبهائها الفانون والعظماء وأهل الأدب . وأصبحت تموج بالحركة الأدبية والفكرية والسياسية والإقتصادية خاصة في الربعين الأول والثاني من القرن العشرين ، وأصبحت كسلا مدينة كبيرة وعظيمة لا تضاهيها في العظمة والشموخ والجمال إلي العاصمة الخرطوم ، إذ ساهم هذا الجمع الكبير في التنمية والبناء وعمران المدينة وتحديثها وتخطيطها حتي أخذت الطابع الذي هي عليه المدينة اليوم ، ومما ساعد علي هذا الإزدهار ذلك الوئام الذي ساد المدينة ، إذا عاش الجميع في سلام وأمن وطمأنينة لأنهم نبغوا وترعرعوا تحت إدارة الدولة وكنفها ورعايتها ، وفي ظل المحبة والوئام والأخاء والترابط والتسامح والإنصهار .

الموارد الإقتصادية :

إن موارد ! كسلا بالغة الأهمية منذ زمن بعيد ، وأهميتها تنبع من تنوع البيئة والمناخ ، وتنتج كسلا كثيرا من الفواكه مثل الموز والبرتقال والقريب فروت والجوافة والمانقو والليمون ، ويهتم سكانها بزراعة الحاصلات الزراعية مثل الذرة والدخن والذرة الشامي بجانب الخضروات ومن أهمها البصل ، وتوجد في كسلا غابات الدوم والسنط وبعض الأشجار الأخرى التي يمكن أن تنتج الأخشاب الثمينة ، كما يمكن إكتشاف معادن كثير من جبال كسلا (جبال التاكا ومكرام) وغيرهما من جبال منتشرة في أطرافها مثل الجرانيت والذهب والنحاس والقصدير لو وجد ذلك الإهتمام والعناية .

وتلعب الماشية دوراً مهماً في الحياة الإقتصادية لدي سكان كسلا منذ وقت بعيد فهم يهتمون بتربية الأغنام والأبقار والجمال – وقد تزايد معدل صادرات كسلا من اللحوم ومنتجاتها كالألبان والجلود .

ولعل التجارة كانت هي عصب الحياة في هذه المدينة وفي غيرها من بلاد الشرق قرون عديدة قبل الإسلام ، بل كانت التجارة أهم وسيلة للإتصال إذ نشطت تجارة العاج في المنطقة كلها مع تجارة الصمغ واللبان والذهب بين الجزيرة العربية من ناحية وموانئ مصر والسودان والحبشة من ناحية أخرى .

! وإتخذ التجار العرب من بعض نقاط علي الساحل مراكز لهم يوغلون فيها بس لعهم وبضائعهم في قلب القارة الأفريقية حتي وادي النيل علي الأقل .

وفي الألفي سنة قبل الميلاد هاجرت جماعات عربية من جنوب غربي الجزيرة العربية إلي الحبشة ، وبلغت هذه الهجرات أقصاها بين 1500 ق م – 300 ق م في عهد دولتي معين وسبأ . حمل أهل معين وسبأ لواء التجارة في البحر الأحمر ووصلوا في توغلهم غربا إلي وادي النيل . ونشطت حركة التجار العرب خاصة زمن البطالمة والرومان . وفي القرنين السابقين للميلاد عبر عدد كبير من الحميريين (أهل اليمن) مضيق باب المندب ، فإستقر بعضهم في الحبشة وما جاورها من بلاد السودان الشرقي ، وتحرك بعضهم الآخر متتبعاً النيل الأزرق ونهر عطبرة (أتبرا) ليصلوا عن هذا الطريق إلي بلاد النوبة . وإختلط هؤلاء اليمنيون بالحاميين سكان شرق السودان ، وورثوا ملك أجدادهم من ناحية الأم حسبما يقضي به نظام التوريث المعروف عند الشعوب الحامية وهو توريث ابن الأخت أو ابن البنت .

ويري بعض المؤرخين من أمثال ريد وبول ومصطفي مسعد ويوسف فضل ، أن من إنتفع بهذا النظام الوراثي من العرب جماعة من الحضارمة – سكان حضرموت – الذين عبروا البحر الأحمر إلي ساحله وكونوا طبقة حاكمة خضع لها! هؤلاء البجة المعروفون بالزنافج ويذكر بول أن هؤلاء الحضارمة (عند العرب الحداربة) الذين إستقروا في إقليم العتابي في الشمال ، ثم إضطروا إلي الإنتقال جنوباً في القرن الخامس عشر الميلادي حيث أسسوا مملكة البلو ( مملكة بني عامر) في أقليم طوكر .

ومهما يكن من أمر فإن كسلا بعد ظهورها وتطورها كمركز تجاري في قلب الشرق ، ورثت هذه التجارة بكل صادراتها ووارداتها ، فبعد إزدهارها وإنتعاشها كمدينة إستراتيجية ، أصبحت تخرج منها سلع وثروات البلاد المهمة كالفواكة والماشية والذرة ، ويعبر عن طريقها الصمغ والقطن في طريقه إلي البحر الأحمر ومنه إلي خارج البلاد ، كما عرفت تجارة الحدود مع أثيوبيا في ذلك الوقت وكانت تستورد العطور واللبان والبخور والأقمشة الحريرية والقطنية والصوفية، كما أن خيراتها وثرواتها تخرج منها بإستمرار إلي خارجها في الداخل والخارج لدرجة أن المدينة نفسها عانت كثيراً ، فيتمثل أهلها بقول الشاعر :

كالعير في البيداء يقتلها الظـمـأ * * والماء فوق ظهورها محمول

No comments: